فصل: باب القَوْل فِي جَوَاز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي حَضْرَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل: فِي الرَّد على من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده:

ذهب بعض أصحاب أبي حنيفَة إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فِي اجْتِهَاده واحدهما مُصِيب فِي الحكم.
وَالثَّانِي مُخطئ فِيهِ، ويؤثر ذَلِك عَن أبي حنيفَة ويحكى عَن الْمُزنِيّ وَغَيره من أصحاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ مثله وَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ عَن الشَّافِعِي نصوصا دَالَّة على الْأَخْذ فِيهَا بِهَذَا المأخذ.
وَأول مَا نفاتح الْقَوْم بِهِ أَن نقُول هَل يُكَلف الْمُجْتَهد العثور على الْحق الْمَطْلُوب بِالِاجْتِهَادِ؟ فَلَا يخلون عِنْد ذَلِك إِمَّا أَن يَقُولُوا: لَا يتَعَيَّن على الْمُجْتَهد إِلَّا الِاجْتِهَاد، فَأَما العثور على الْحق فَلَا يُكَلف.
فَإِن سلكوا هَذِه الطَّرِيقَة فقد أفصحوا بمذهبنا فَإِنَّهُم صوبوا كل مُجْتَهد فِيمَا كلف. على أَن عباراتهم شنيعة جدا كَأَنَّهُمْ أثبتوا حكما يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف وَهَذَا مَرْدُود بِاتِّفَاق. فَإِن الْأَحْكَام فِي المجتهدات وَغَيرهَا من الشرعيات يتَعَلَّق التَّكْلِيف بهَا إِجْمَاعًا إِذْ المستحيل ثُبُوت تَحْرِيم وَتَحْلِيل وَإِيجَاب وَندب من غير أَن يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف مُكَلّف.
فَإِن قَالُوا: إِن الْمُجْتَهد مَأْمُور بِالِاجْتِهَادِ والعثور على الْحق كَمَا قَالَه الْأَولونَ.
فَيُقَال لَهُم: فَهَل على الْحق دَلِيل؟ فَإِن قَالُوا: أجل! قيل لَهُم فَكيف يكون الْمُجْتَهد مصيبا فِي اجْتِهَاده، وَهُوَ لم يتَمَسَّك بِمَا يُفْضِي بِهِ إِلَى الْحق - إِمَّا بِأَن حاد عَن الدّلَالَة فَلم يتَعَلَّق بهَا، أَو فرط فَلم يكمل النّظر فِيهَا. فَلَا يَسْتَقِيم مَعَ هَذَا الأَصْل القَوْل بِأَن الْمُجْتَهد أدّى مَا كلف فِي اجْتِهَاده.
فَإِن قَالُوا: إِن بعض مَا أَتَى بِهِ من الِاجْتِهَاد، فقد أدّى مَا كلف فِيهِ وَلكنه لم يتممه فَنَقُول: فَمَا يُؤمنهُ أَنه لم يسْلك طَرِيق النّظر فِي الدّلَالَة وَلم يضع نظره أَولا إِلَّا فِي شُبْهَة. مَعَ تَجْوِيز ذَلِك كَيفَ تطلقون القَوْل بتصويبه فِي الِاجْتِهَاد، على أَن الِاجْتِهَاد مِمَّا لَا يَتَبَعَّض فَإِذا لم يكمل لم يَصح شَيْء مِنْهُ. فَإِنَّهُ يطْلب لغيره، ويتنزل منزلَة الصَّلَاة يُؤَدِّي بَعْضهَا ثمَّ يطْرَأ عَلَيْهَا مَا يُبْطِلهَا.
على أَنا نقُول بعد مَا بَينا تناقضهم، نتمسك عَلَيْهِم بِالدّلَالَةِ القاطعة الَّتِي لَا مخلص مِنْهَا، بِأَن نقُول أَلَيْسَ مُجْتَهدا مَأْمُورا بِأَن يعْمل بِمُوجب اجْتِهَاده، مأثوما بالانكفاف عَنهُ، عَاصِيا بِتَرْكِهِ؟ وَهَذَا حَقِيقَة الْوُجُوب وَلَا مُوجب إِلَّا الله، فَكيف يتَحَقَّق مَعَ ذَلِك أَن يَأْمُرهُ بالشَّيْء ويعصيه بِتَرْكِهِ وَيجوز أَن يكون مَنْهِيّا عَمَّا أَمر بِهِ فَهَل هَذَا إِلَّا تنَاقض. لَا يستريب فِيهِ ذُو عقل!.
فَإِن قَالُوا: فَالَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بِمَا لَو اجْتهد وَعمل بِمُوجب اجْتِهَاده ثمَّ تبين لَهُ أَنه أَخطَأ نصا فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُورا بِمُوجب اجْتِهَاده.
ثمَّ تبين لَهُ أَنه كَانَ مخطئا. وَهَذَا مِمَّا يعدونه من أعظم القوادح فِيمَا تمسكنا بِهِ.
فَنَقُول: إِذا لم يفرط الْمُجْتَهد فِي الطّلب وَشدَّة الْبَحْث عَن النُّصُوص، وَلم يتَمَكَّن من العثور عَلَيْهِ، فَحكم الله تَعَالَى عَلَيْهِ مُوجب اجْتِهَاده قطعا. ويتنزل منزلَة من لم يبلغهُ النَّاسِخ للْحكم. فَيكون مُخَاطبا - على الْأَصَح - بِمُوجب الْمَنْسُوخ إِلَى أَن يبلغهُ النَّاسِخ. وَإِذا صددناهم عَن ذَلِك ضَاقَ عَلَيْهِم كل مَسْلَك، وَاسْتمرّ لنا مَا طردناه من الدَّلَائِل .

.فصل: فِي القَوْل بالأشبه، وَذكر اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ:

ذهب طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب. وَلَا يُكَلف إِلَّا الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده لكنه مَأْمُور عِنْد وضع الِاجْتِهَاد بِطَلَب الْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى.
ثمَّ إِذا طرد اجْتِهَاده فَلَا يُكَلف أَن يُصِيب الْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى، وَلَكِن يعْمل بقضية اجْتِهَاده وَلم يقل بالأشبه إِلَّا المصوبون. وَإِلَيْهِ مَال عِيسَى بن أبان والكرخي فِي بعض رواياته. وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن.
ثمَّ روجعوا فِي الْأَشْبَه، اخْتلفت أجوبتهم فِي بَيَانه.
فَذهب بَعضهم إِلَى الْكَفّ عَن بَيَانه. وَهَذَا نِهَايَة الْعين . فَإِن مَا ذَكرُوهُ إِن كَانَ مَجْهُولا عِنْدهم فيستحيل اعْتِقَاده وَإِن كَانَ مَعْلُوما، يَأْتِي بِبَيِّنَتِهِ. وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى أولى طرق الشّبَه فِي المقايس والعبر.
ومثلوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: إِذا ألحق القايس الْأرز بِالْبرِّ بِوَصْف الطّعْم أَو بِوَصْف الْقُوت أَو الْكَيْل فأحد هَذِه الْأَوْصَاف أشبه عِنْد الله تَعَالَى وَأقرب فِي التَّمْثِيل.
والمجتهد يُكَلف نَفسه بِالِاجْتِهَادِ، العثور عَلَيْهِ.
ثمَّ لَا عَلَيْهِ أَن لَو أخطأه.
وَذهب آخَرُونَ فِي تَفْسِير الْأَشْبَه إِلَى أَن قَالُوا: الْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي لَو ورد النَّص تَقْديرا لما ورد إِلَّا بِهِ.
فَنَقُول لَهُم: إِذا صوبنا الْمُجْتَهدين، وأوجبنا على كل وَاحِد تتبع مُوجب اجْتِهَاده، وَجَعَلنَا كل وَاحِد على حق عِنْد الله تَعَالَى فَلَا معنى لتقدير الْأَشْبَه مَعَ ذَلِك. على أَنا نقُول لَهُم: هَل يُكَلف الْمُجْتَهد العثور على الْأَشْبَه، أم لَا يُكَلف ذَلِك؟ فَإِن لم يُكَلف العثور عَلَيْهِ، فَكيف يجب طلبه، مَعَ أَن الْمُجْتَهد يعْتَقد أَنه لَا يُكَلف العثور عَلَيْهِ.
وَإِن قُلْتُمْ: إِنَّه يجب العثور عَلَيْهِ، فَإِذا لم يعثر عَلَيْهِ الا وَاحِد من الْمُجْتَهدين، وَجب تخطئة البَاقِينَ. وَهَذَا خوض فِي الْمَذْهَب الأول الَّذِي ابطلناه إِذْ لَا فصل بَين تَقْدِير الْأَشْبَه، وَلَا دَلِيل يُوصل إِلَيْهِ وَبَين تَقْدِير الْعلم، وَلَا دَلِيل يُوصل إِلَيْهِ
على أَن مَا عولنا عَلَيْهِ، يهدم الْمصير إِلَى الْأَشْبَه. فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل الْجمع بَين قَول الْقَائِل: يجب على كل مُكَلّف أَن يعْمل بِمُوجب اجْتِهَاده ويعصي بِتَرْكِهِ، وَيجوز أَن يكون الأمثل لَهُ غَيره. وَالْأَشْبَه عِنْد الله تَعَالَى ترك مَا يعصيه بِتَرْكِهِ.
ثمَّ نقُول: مَا ذكرتموه فِي الْأَشْبَه لَا معنى لَهُ. فَإِنَّكُم إِن عنيتم بِهِ مشابهة الْفَرْع الأَصْل فِي أَوْصَاف الذَّات فَهَذَا مُسْتَحِيل فِي طَرِيق اجْتِهَاد الشرعيات. فَإِن الشَّيْء خِلَافه كَمَا يُقَاس على مثله فَلَا يعول فِي العبر الشَّرْعِيَّة على تماثل الْأَوْصَاف الذاتية .
وَإِن عنوا بالأشبه أَن الرب تَعَالَى نصب وَصفا من الْأَوْصَاف علما دون غَيره، فَكيف يَقُولُونَ مَعَ ذَلِك بتصويب الْمُجْتَهدين. وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ.
ثمَّ نقُول: لم يُؤثر عَن الْقَائِلين بالأشبه، إِلَّا المقالات الثَّلَاث الَّتِي حكيناها أَحدهَا الْكَفّ عَن التَّفْسِير، وَهُوَ تورط فِي الْجَهَالَة.
وَالثَّانِي: التَّفْسِير بِأولى وُجُوه الْقيَاس وَهُوَ بَاطِل، فَإِن الأول لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون أولى عقلا، وَهُوَ بَاطِل، وَإِمَّا أَن يكون أولى بِمَعْنى أَنه علم على الحكم دون غَيره. فَهُوَ الْحق إِذا وَمَا سواهُ فخطأ. وَلَا معنى للاشبه سوى مَا قُلْنَاهُ. وان خسروا الْأَشْبَه بِأَنَّهُ الَّذِي لَو ورد النَّص لم يرد إِلَّا بِهِ. فَنَقُول: فَقولُوا إِن من أخطأه مَعَ أَنه وَجب عَلَيْهِ طلبه فَهُوَ مُخطئ فَإِن قَالُوا: لَا نجعله مخطئا، لِأَنَّهُ لم يرد بِهِ النَّص قُلْنَا: فَلَا تجعلوه الْأَشْبَه فَإِنَّهُ لم يرد بِهِ النَّص. فَإِنَّهُ لَا معنى لكَونه أشبه إِن يرجع إِلَى ذَاته، و إِنَّمَا يكون اشبه بِنصب الشَّرِيعَة إِيَّاه علما على الحكم. فَإِذا لم ينصبه لم يكن لكَونه أشبه معنى.
فَإِن اسْتدلَّ الْقَائِلُونَ بالأشبه بنكتة وَاحِدَة على المصوبين فَقَالُوا: لَا بُد للمجتهد من مَطْلُوب وَلَا يتَصَوَّر طلب من غير مَطْلُوب. وَقد منعتم أَن يكون المبطلون علما، وانكرتم أَن يكون لله تَعَالَى حكم معِين فِي الْحَادِثَة أَو أَمارَة مَنْصُوبَة على الحكم يتَعَيَّن العثور عَلَيْهَا. فَإِذا أبطلتم مَعَ ذَلِك الْأَشْبَه، فَمَا الَّذِي تطلبونه؟ وَهَذَا أعظم سُؤال على المصوبين. وَرُبمَا يوضحون ذَلِك بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقبْلَة فَيَقُولُونَ من خفيت عَلَيْهِ أَدِلَّة الْقبْلَة فَهُوَ مَأْمُور بطلبها، ثمَّ إِنَّا نكلفه أَن يُصَلِّي إِلَى الْجِهَة الَّتِي أدّى اجْتِهَاده إِلَيْهَا، وَلَكِن يتأسس اجْتِهَاده على طلب الْقبْلَة ثمَّ يعْمل بقضيتها. وَلَا يُكَلف سوى قَضِيَّة اجْتِهَاده. وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الْأَشْبَه.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا يَصح مِنْكُم أَولا فَإِن معولكم فِيمَا ذكرتموه على أَن الطّلب من غير مَطْلُوب لَا يتَحَقَّق وَهَذَا ينعكس عَلَيْكُم مَعَ قَوْلكُم بِأَن العثور يجب على الْمَطْلُوب. فَإِذا لم توجبوا العثور على الْمَطْلُوب، وَعلم كل مُجْتَهد ذَلِك من نَفسه، فَأَي معنى لوُجُوب الطّلب؟
ثمَّ يُقَال بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَطْلُوب بِالِاجْتِهَادِ غَلَبَة الظَّن! فمهما غلب بطرِيق الِاجْتِهَاد على ظن الْمُجْتَهد ضرب من الحكم فغلبة ظَنّه أَنه حكم لله تَعَالَى عَلَيْهِ.
فَإِن قَالُوا: فمجرد غَلَبَة الظَّن لَا ينْتَصب آيَة وفَاقا، حَتَّى تقع غَلَبَة الظَّن عَن اجْتِهَاد. وَالِاجْتِهَاد يَنْبَغِي أَن يَنْبَنِي على قصد مَطْلُوب. ويستحيل أَن يكون مَطْلُوب الْمُجْتَهد غَلَبَة الظَّن بل يطْلب شَيْئا ويغلب على ظَنّه أَنه أَصَابَهُ فَيكون ذَلِك ظن صدر عَن اجْتِهَاده مُتَعَلق بمطلوب وانتم إِذا لم تثبتوا مَطْلُوبا أصلا فَلَا يتَقَدَّر الِاجْتِهَاد.
قُلْنَا: سَبِيل التَّوَصُّل إِلَى غَلَبَة الظَّن مَا نذكرهُ الْآن وَهُوَ أَن الْمُجْتَهد يعلم أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم تمسكوا بِاعْتِبَار الْعِلَل وَغَلَبَة الْأَشْبَاه وحكموا بِمَا يخْطر لَهُم من قضاياها فيسلك الْمُجْتَهد مسلكهم، مَعَ أَنه يعْتَقد عدم تعْيين حكم مُحَقّق أَو مُقَدّر فمهما قدر نَفسه سالكا مسلكهم فِي الْحَادِثَة الْوَاقِعَة فيغلب على ظَنّه عِنْد ذَلِك مُوجب اجْتِهَاده فقد وضح وَجه التَّوَصُّل إِلَى غَلَبَة الظَّن، من غير تَقْدِير الْأَشْبَه كَمَا صرتم إِلَيْهِ. و من غير تَقْدِير الْحق الكامن، كَمَا صَار إِلَيْهِ الْأَولونَ.

.فصل: القَوْل بالتخيير عِنْد تقَابل الأمارات:

فَإِن قَالَ قَائِل إِذا اجْتهد الْمُجْتَهد، فتقابل فِي ظَنّه وَجْهَان من الِاجْتِهَاد وَلم يتَرَجَّح أَحدهمَا على الآخر وهما متعلقان بحكمين متنافيين فَمَا قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّور؟
قُلْنَا: أما من زعم أَن الْمُصِيب وَاحِد، فقد اخْتلفت أَقْوَالهم فِي هَذِه الصُّورَة. فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه يُقَلّد عَالما قد قطع بِأحد وَجْهي اجْتِهَاده.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يُقَلّد عَالما وَلَا يَأْخُذ بِاجْتِهَاد نَفسه وَلَكِن يتَوَقَّف، ويصمم على طرق التَّرْجِيح.
فَإِن تضيق الْأَمر فقد اخْتلف مانعوا التَّقْلِيد عِنْد ذَلِك. فَذهب ذاهبون إِلَى جَوَاز التَّقْلِيد فِي هَذِه الْحَالة، وَإِن منعُوا فِي غَيرهَا من الْأَحْوَال.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يُقَلّد وَلَكِن يعْمل بِأَحَدِهِمَا.
ويستقصى القَوْل فِي ذَلِك فِي كتاب التَّقْلِيد. إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأما المصوبون فقد خير بَعضهم، وَمنع بَعضهم القَوْل بالتخيير وصاروا إِلَى التَّوَقُّف أَو التَّقْلِيد. وَزعم أَنه حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِ قطعا.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح فِي ذَلِك عندنَا مَا صَار إِلَيْهِ شَيخنَا رَضِي الله عَنهُ. وَهُوَ أَن الْمُجْتَهد يتَخَيَّر فِي الْأَخْذ بِأَيّ الاجتهادين شَاءَ. وَالدَّلِيل على ذَلِك بطلَان التَّقْلِيد، على مَا نوضحه.
فَإِذا بَطل التَّقْلِيد وَقد أوضحنا بِمَا قدمْنَاهُ أَن كل مُجْتَهد مُصِيب وَقد اسْتَوَى فِي حَقه الاجتهادان، فَلَا سَبِيل إِلَى الْأَخْذ بِمَا شَاءَ الا بِضيق الْوَقْت. فَينزل الحكمان فِي حَقه منزلَة الْكَفَّارَة فِي حق الحانث.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَفِي الْمصير إِلَى التَّخْيِير خرق الْإِجْمَاع. وَذَلِكَ أَنه إِذا نقل عَن الصَّحَابَة قَولَانِ فِي الْمَسْأَلَة فاجتهد فيهمَا الْمُجْتَهد و تقاوم الاجتهادان فِي حَقه، فَلَو صَار التَّخْيِير كَانَ قولا ثَالِثا وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن من صَار إِلَى إِيجَاب رَقَبَة فِي حَادِثَة، مَعَ من صَار إِلَى إِيجَاب الْكسْوَة، لَا يوافقان من خير بَينهمَا. فَإِن الْمُخَير سلك مسلكا سوى مسلكهما. فَمن هَذَا الْوَجْه لزم اختراع قَول ثَالِث.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن التَّخْيِير من الْأَحْكَام المعدودة فِي مَرَاتِب أَحْكَام الشَّرِيعَة ويتميز بِهِ بعض الْكَفَّارَات عَن بعض. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه يَنْقَلِب عَلَيْكُم على وَجه لَا تَجِدُونَ عَنهُ مخلصا فَإنَّا نقُول: إِذا تقَابل الاجتهادان، وتضيق الحكم، وَلم يجد الْمُجْتَهد من يقلده. فَمَا قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّورَة؟ فيضطرون إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ يَأْخُذ بِأَحَدِهِمَا و يلْزمهُم فِي هَذِه الصُّورَة مَا ألزمونا.
فَإِن قَالُوا: يتَوَقَّف! فَكيف يُمكنهُم ذَلِك؟ وَقد صور عَلَيْهِم التَّضْيِيق وَمنع التَّأْخِير بِإِجْمَاع على أَن للخصم أَن يَقُول: التَّوَقُّف حكم ثَالِث .
ثمَّ نقُول: لسنا نقُول إِن التَّخْيِير يثبت حكما فِي حق الْمُجْتَهد حَتَّى يعْتَقد أَنه ثَالِث وَلَكِن يَأْخُذ بِأَحَدِهِمَا. و يُوَافق من يَشَاء من الْمُخْتَلِفين فِي الْعَصْر الْمَاضِي. وَهُوَ كالمستفتي يتَصَدَّى لَهُ مفتيان مستويان فِي كل الْأَوْصَاف وفتوياهما لَهُ مُخْتَلِفَانِ. فَيَأْخُذ بفتوى أَحدهمَا، وَلَا يكون ذَلِك تخييرا.
فوضح الِانْفِصَال عَمَّا ألزموه.
فَإِن قَالُوا: أَلَيْسَ معولكم على غَلَبَة الظَّن فِي كل مَا قدمتموه. فَإِذا تقَابل الاجتهادان فقد خلت الْمَسْأَلَة عَن غَلَبَة الظَّن.
قُلْنَا: إِذا تقَابل الاجتهادان فتقابلهما أَمارَة فِي إثارة غَلَبَة الظَّن بالتخيير.
وَهَذَا وَاضح فافهمه وَقد انْقَضى الْكَلَام فِي تصويب الْمُجْتَهدين.

.باب القَوْل فِي جَوَاز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي حَضْرَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:

اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب ذاهبون إِلَى منع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي حَضْرَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذهب آخَرُونَ إِلَى جَوَاز ذَلِك عقلا وَهُوَ الَّذِي نرتضيه.
فَإِن الْجَائِز يتَمَيَّز عَن المستحيل بِانْتِفَاء وُجُوه الاستحالة. وَجُمْلَة وُجُوه الاستحالة منتفية فِي جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ بِحَضْرَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم و لَو قدر مُصَرحًا بِهِ، لم يسْتَحل بِأَن يَقُول صَاحب الشَّرِيعَة، إِذا عنت لكم حَادِثَة فَأنْتم بِالْخِيَارِ فِيهَا. إِن أَحْبَبْتُم راجعتموني لأخبركم بِحكم الله تَعَالَى وَحيا واجتهادا. وَإِن أَحْبَبْتُم فاجتهدوا. فغلبة ظنكم أَمارَة حكم الله تَعَالَى عَلَيْكُم. فَهَذَا لَا يَسْتَحِيل عقلا. لَا فِي صفة المتعبد تَعَالَى وَجل، وَلَا فِي صفة المتعبد وَلَا فِي صفة التَّعَبُّد.
فَإِن قَالُوا: من كَانَ بِحَضْرَة الرَّسُول، فَهُوَ قَادر على التَّوَصُّل إِلَى النَّص. وَلَا يسوغ الِاجْتِهَاد مَعَ الْقُدْرَة على الْوُصُول إِلَى النَّص.
قُلْنَا: فَهَذَا أَيْضا دَعْوَى مِنْكُم.
على أَنا نقُول: لَيْسَ كلامنا فِيمَا اسْتَقر فِيهِ نَص. وَإِنَّمَا كلامنا فِي حَادِثَة لم يُؤثر فِيهَا عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَاب. فَهِيَ قبل مُرَاجعَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَالِيَة عَن النَّص.

.فصل فِي بَيَان وُقُوع الِاجْتِهَاد فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:

فَإِن قَالَ قَائِل: قد ذكرْتُمْ جَوَاز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ عقلا. فَهَل ورد الشَّرْع بِهِ ؟
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: أما الَّذين غَابُوا عَن مَجْلِسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد صَحَّ تعبدهم بِالْقِيَاسِ فِي أَخْبَار تلقتها الْأمة بِالْقبُولِ.
مِنْهَا حَدِيث معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَ تحكم؟ قَالَ: بِكِتَاب الله. قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فاجتهد رَأْيِي وَلَا آلو فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُول الله لما يرضاه رَسُول الله. ونعلم أَيْضا أَن الَّذين بعدوا عَن مَجْلِسه من ولَايَة و مستخلفيه على العساكر والبلاد كَانَ يعن لَهُم من الْحَوَادِث مَا لَا نَص فِيهِ. وَكَانُوا لَا يتوقفون فِي جَمِيعهَا، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم ذَلِك مِنْهُم. فَهَذَا فِي الْغَيْبَة عَنهُ.
فَأَما الَّذين كَانُوا بِحَضْرَتِهِ، فَلم تقم حجَّة شَرْعِيَّة فِي تعبدهم بِالْقِيَاسِ، وَإِن وَردت لَفْظَة فَهِيَ شَاذَّة أَو مُحْتَملَة للتأويل.

.القَوْل فِي جَوَاز تعبد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ:

اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك. فَذهب الَّذين أحالوا التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ إِلَى الجري على مُقْتَضى أصلهم فِي اسْتِحَالَة التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ.
وَأما الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فقد اخْتلفُوا أَيْضا.
فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه لَا يجوز أَن يتعبد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقِيَاسِ والتحري وَالِاجْتِهَاد. و منعُوا ذَلِك عقلا. وَذهب آخَرُونَ إِلَى جَوَاز تعبده بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد وألحقوا ذَلِك بجائزات الْعُقُول. وَهُوَ الَّذِي نختاره.
و الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَيْسَ فِيهِ وَجه من وُجُوه الاستحالة لَا فِي المتعبد تَعَالَى وَجل وَلَا فِي التَّعَبُّد، وَلَا فِي المتعبد فَلَا يبعد أَن يَقُول الله تَعَالَى لرَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا وَقعت حَادِثَة، فاجتهد فِيهَا رَأْيك. فَمَا مَال إِلَيْهِ رَأْيك فَهُوَ الْحق وَهَذَا وَاضح لكل من تَأمله.
وَتمسك من أحَال تعبده بِالْقِيَاسِ، بطرق:
مِنْهَا: أَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ، عمل بِغَلَبَة الظَّن. فَلَو تمسك بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ يبلغ عَن ربه شَرِيعَته بِمُوجب غَلَبَة الظَّن وَذَلِكَ مُسْتَحِيل فِي أَوْصَاف الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل. وَذَلِكَ أَن الْمُجْتَهد عندنَا يغلب على ظَنّه أَولا، ثمَّ نقطع على الله سُبْحَانَهُ بِمُوجب غَلَبَة ظَنّه. ونعلم أَن غَلَبَة ظَنّه أَمارَة نصبها الله تَعَالَى فِي مُوجبهَا.
فَكَذَلِك الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نقطع بِمَا يحكم بِهِ، و ينزل ذَلِك منزلَة مَا لَو قَالَ الله تَعَالَى لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مهما ظَنَنْت إقبال فلَان وقدومه فاقطع بِهِ فَإنَّك لَا تظن إِلَّا حَقًا. فَهَذَا سَائِغ لَا اسْتِحَالَة فِيهِ.
وَمِمَّا تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا: لَو سَاغَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجْتَهد لساغ لغيره أَن يجْتَهد أَيْضا، ثمَّ يكون كل مُجْتَهد مؤاخذا بِاجْتِهَادِهِ، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى أَن يُخَالف المجتهدون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا اخْتلفت الاجتهادات. وَفِي ذَلِك إبْطَال الِاتِّبَاع والحط لمنزلة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالْجَوَاب عَن هَذَا السُّؤَال أَن نقُول: لَو رددنا إِلَى مُوجب الْعقل، لم يكن فِيمَا قلتموه اسْتِحَالَة. وكل مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَدْعُو الْمُجْتَهدين إِلَى اتِّبَاعه فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى مُخَالفَة الِاتِّبَاع، فَهَذَا فِي سَبِيل الْعقل .
وَلَكِن قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع على أَن مَا يقدم عَلَيْهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَبْيِين الشَّرْع لَا على سَبِيل الِاخْتِصَاص بِهِ فَيجب اتِّبَاعه، وَلَا يجوز الاستبداد بالحكم على خلاف مَا بَينه. فمنعنا لذَلِك ترك الِاتِّبَاع، واستقلال كل مُجْتَهد بِنَفسِهِ. وَكَأن الرب تَعَالَى يَقُول: كل مُجْتَهد مؤاخذ بِاجْتِهَادِهِ، إِلَّا مَا كَانَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ اجْتِهَاد، فَهُوَ الْقدْوَة.
وَمِمَّا تمسكوا بِهِ أَيْضا، أَن قَالُوا: لَو جَازَ أَن يجْتَهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجَاز أَن يُخطئ مرّة ويصيب أُخْرَى. وَفِي ذَلِك إبْطَال الثِّقَة بِمَا يَقُوله.
قُلْنَا: هَذِه غَفلَة عَظِيمَة مِنْكُم. فانا لم نصور من آحَاد الْمُجْتَهدين الْخَطَأ. على مَا أوضحناه من أصلنَا فِي تصويب الْمُجْتَهدين فَكيف تظنون منا ذَلِك فِي اجْتِهَاد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَنا لَو قَدرنَا جَوَاز الْخَطَأ من سَائِر الْمُجْتَهدين فَلَا نجوزه من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِنَّهُ وَاجِب الْعِصْمَة فيتنزل فِي اجْتِهَاده منزلَة مَا لَو اجْتمع كَافَّة الْأمة على ضرب من الِاجْتِهَاد إِجْمَاعًا مِنْهُم فَلَا يسوغ خطاؤهم. وَإِن قُلْنَا إِن الْمُصِيب وَاحِد من الْمُجْتَهدين وَيتَصَوَّر خطأ آحَاد الْمُجْتَهدين. فَبَطل مَا قَالُوهُ.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا، لِأَن قَالُوا: لَو جَازَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجْتَهد، لجَاز لجبريل عَلَيْهِ السَّلَام أَن يجْتَهد. ويخبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اجْتِهَاده وَهُوَ يضيف الْكل إِلَى الْوَحْي فِيمَا بلغه جِبْرِيل فيخلط الْوَحْي بِغَيْرِهِ، وَفِيه لبس عَظِيم فِي الدَّلِيل.
قُلْنَا: هَذَا رَكِيك من القَوْل فَإِن جِبْرِيل إِذا اجْتهد أخبر الرَّسُول بِاجْتِهَادِهِ حَتَّى لَا ينْقل الْكل وَحيا، إِذا علم ان الْأَمر يلتبس فبطلت عصمتهم ووضح جَوَاز تعبده بِالْقِيَاسِ.

.فصل: هَل وَقع تعبد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ:

فان قَالَ قَائِل: قد ثبتمْ جَوَاز تعبد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ عقلا فَهَل ورد ثُبُوت ذَلِك سمعا؟ قُلْنَا: اخْتلف اهل الْعلم فِي ذَلِك فَذهب ذاهبون إِلَى أَنه ورد السّمع بذلك. وَقطع آخَرُونَ أَنه لم يرد بِهِ السّمع.
وَنحن نذْكر مَا تمسك بِهِ كل فريق، ونتكلم عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَأَما الَّذين نفوا وُرُود السّمع بِهِ فقد استدلوا، بِأَن قَالُوا: لَو كَانَ شرع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِاجْتِهَاد لَكَانَ لَا يتَوَقَّف فِي كثير من الْأَحْكَام ينْتَظر فِيهَا الْوَحْي وَكَانَ يتسرع إِلَى الِاجْتِهَاد حَسْبَمَا جوز لَهُ.
وَهَذَا بَاطِل. فَإِن للآخرين أَن يَقُولُوا: إِنَّمَا كَانَ يتَوَقَّف فِيمَا لم يكن للِاجْتِهَاد فِيهِ مساغ وَلم يكن لَهُ أصل يرد إِلَيْهِ اعْتِبَارا وَقِيَاسًا إِذْ لم يكن قد اسْتَقر الشَّرْع و تأسست قَوَاعِده على أَنه لَا يبعد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير بَين الِاجْتِهَاد وَبَين انْتِظَار الْوَحْي. فَكَانَ يجْتَهد مرّة وينتظر الْوَحْي أُخْرَى .
وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا أَن قَالُوا: لَو كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَمَسَّك بِالِاجْتِهَادِ لنقل ذَلِك نقلا مستفيضا قَاطعا للريب. كَمَا نقل تمسكه بِالْوَحْي.
وَهَذَا مَا لَا معتصم فِيهِ أَيْضا. إِذْ لَيْسَ من شَرط كل مَا يُؤثر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان يستفيض بل مِنْهُ مَا ينْقل آحادا، وَمِنْه مَا ينْقل استفاضة. على أَنه لَا يجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُخْبِرهُمْ بمصادر احكامه و مقتضياتها وَتمسك هَؤُلَاءِ بالطرق الَّتِي قدمناها فِي اسْتِحَالَة تعبده بِالِاجْتِهَادِ عقلا، وَقد قدمنَا الاجوبة عَنْهَا فَهَذَا كَلَام.
فَأَما الَّذين قَالُوا: أَن الشَّرْع ورد بتعبده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ فقد استدلوا بِمَا جرى فِي أَمر أُسَارَى بدر. فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فادهم بِاجْتِهَادِهِ و رَأْيه. وَلم يقدم على ذَلِك عَن قَضِيَّة وَحي وَلذَلِك عاتبه الرب تَعَالَى فِي قَوْله {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} الْآيَة. وَكَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَشَارَ على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَتْلِهِم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد نزُول الْآيَة لقد كَانَ الْعَذَاب إِلَيْنَا أقرب من هَذِه الشَّجَرَة وَلَو أنزل، لما نجا مِنْهُ إِلَّا عمر.
قَالُوا: فَهَذِهِ الْآيَة مَعَ سَبَب نُزُولهَا دلَالَة وَاضِحَة على حكمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: من زعم أَن هَذِه الْآيَة تدل على حكمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ فقد افترى على الله تَعَالَى بأعظم الْفِرْيَة بِعَينهَا فَإِن فِيهِ تعرضا لتجويز الْخَطَأ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ تَقْرِيره عَلَيْهِ . وَالنَّاس على حزبين فِي تَجْوِيز الْخَطَأ على الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَمن جوزه مِنْهُم لم يجوز تقريرهم عَلَيْهِ.
فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه لم يُقرر لما عوتب؟ قُلْنَا: فَعدم التَّقْرِير هُوَ أَلا ينفذ مَا أَخطَأ فِيهِ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يقتل الأسرى وينقض عهود المفاداة، فوضح بذلك الْبطلَان فِي الِاسْتِدْلَال، واستوى الْفَرِيقَانِ فِي التَّأْوِيل.
فَإِن قيل: فَمَا تَأْوِيل الْآيَة بعد سُقُوط الِاحْتِجَاج. قيل: أما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقد كَانَ خير بَين الْقَتْل والمن والمفاداة والاسترقاق. كَمَا أنبأ قَوْله تَعَالَى {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء حَتَّى تضع الْحَرْب} عَن بعض هَذِه الْخلال.
وَلَكِن خَاضَ أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تخير بعض هَذِه الْخلال حَتَّى كَأَنَّهُ بلغ مِنْهُم أَو من بَعضهم مبلغ قطع الرَّأْي والتحكم. فنقم الله تَعَالَى ذَلِك عَلَيْهِم. بيد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَدخل نَفسه مَعَهم فِي مُوجب العتاب تكرما. وَالْآيَة تنبئي عَن تبرئته فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} فَلَمَّا نجز حَدِيثه، خَاطب أصحابه فَقَالَ {تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا} وَنحن نعلم أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُخَاطب بذلك. فقد عرضت عَلَيْهِ خَزَائِن الدُّنْيَا، فأباها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ فِي وُرُود التَّعَبُّد بِالِاجْتِهَادِ، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حكم الْحرم «لَا يعضد شَجَرهَا وَلَا يخْتَلى خَلاهَا». قَالَ الْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتنَا، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْفَوْر «إِلَّا الْإِذْخر» وَنحن نعلم أَنه مَا قَالَه إِلَّا اجْتِهَادًا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ، تحكم أَيْضا. وَلَا يبعد أَنه قَالَه وَحيا وَكَانَ مَعَه فِي ذَلِك الْوَقْت جِبْرِيل أَو ملك آخر يسدده فَبَطل معتصم الْفَرِيقَيْنِ.
وَالْمُخْتَار أَنه لم يرد فِي الشَّرْع دلَالَة يقطع بهَا فِي نفي الِاجْتِهَاد وَلَا فِي إثْبَاته. فَيتَوَقَّف فِيهِ على مورد الشَّرْع .

.باب القَوْل فِي تَخْرِيج الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ وَذكر مُرَاده فِيهِ:

اشْتهر عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ذكر الْقَوْلَيْنِ فَصَاعِدا فِي الْحَادِثَة الْوَاحِدَة مَعَ الْعلم باستحالة اجْتِمَاعهمَا فِي الصِّحَّة فِي حق الْمُجْتَهد الْوَاحِد .
وَقد اعْترض عَلَيْهِ فِي ذَلِك جعل وَغَيره من متأخري الْمُعْتَزلَة وَنحن نذْكر مَا عولوا عَلَيْهِ من وُجُوه الِاعْتِرَاض ونتفصى عَنْهَا ثمَّ نذْكر وَجه تَخْرِيج الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ.
فمما اعْترضُوا بِهِ أَن قَالُوا: إِذا جمع الْجَامِع بَين قَوْلَيْنِ، أَحدهمَا التَّحْلِيل وَالْآخر التَّحْرِيم وذكرهما جَمِيعًا، وَلم يرجح أَحدهمَا على الثَّانِي، واضافهما إِلَى نَفسه، فِي مثل الصِّيغَة الَّتِي يضيف بهَا جملَة الْمَذْهَب إِلَى نَفسه، فَلَا يَخْلُو حَاله فِي ذَلِك، إِمَّا أَن يُرِيد تَصْحِيح الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا فِي حق الْمُجْتَهد الْوَاحِد - فَيكون ذَلِك تناقضا وتنافيا ومباهتة للضروريات والبدائة و إِن كَانَ لَا يعْتَقد ذَلِك، فإطلاقة الْكَلَام على وَجه يُنبئ عَمَّا قُلْنَاهُ يزريه إِذْ لَيْسَ لأحد الْعلمَاء أَن يُطلق من القَوْل مَا ظَاهره الْغَلَط، وَهُوَ يُرِيد بِهِ خلاف ظَاهره. وَإِنَّمَا يَصح من صَاحب الشَّرِيعَة إِطْلَاق أَلْفَاظ مَحْمُولَة على خلاف ظواهرها، للْعلم بِوُجُوب حكمته وَثُبُوت عصمته وتنزهه عَن الزلل. فَهَذِهِ السَّابِقَة تحمل المتأولين على التَّأْوِيل.
فَأَما آحَاد الْعلمَاء فَكل وَاحِد مِنْهُم بصدد الْخَطَأ، فَإِذا بدرت مِنْهُ لَفْظَة، ظَاهرهَا الْخَطَأ، وَلم تجب لَهُ الْعِصْمَة، حملت على الظَّاهِر.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ سَاقِط من الْكَلَام من أوجه: أَحدهَا: أَن لَو سَاغَ مَا قَالُوهُ، لوَجَبَ سد بَاب التَّجَوُّز والتوسع فِي الْكَلَام على غير صَاحب الشَّرِيعَة، حَتَّى لَا يجوز لأحد أَن ينْطق بمجازات اللُّغَة. وَيتَعَيَّن على الكافة النُّطْق بحقائق اللُّغَة، حَتَّى ينْسب النَّاطِق بالمجاز إِلَى السفة والعبث. فَلَمَّا لم يكن ذَلِك، بَطل مَا قَالُوهُ.
ثمَّ نقُول: أَلَيْسَ ورد عَن صَاحب الشَّرِيعَة أَلْفَاظ متأولة والمجوز لذَلِك - على زعمكم - مَا سبق من الْعلم بعصمته. فَإِن قَالُوا: أجل. قيل لَهُم: فَكيف يظنّ بالشافعي فِي مثل رتبته أَن يحرم الشَّيْء ويحلله مَعًا، ويعتقد ذَلِك اعتقادا. وَمن كَمَال الْعقل أَن يعرف الْمَرْء تنَافِي المتنافيات وتناقضها. فنعلم من الشَّافِعِي أَنه لم يسْلك هَذَا المسلك وَإِنَّمَا سلك مسلكا غَيره، فينتصب ذَلِك قرينَة مُقَارنَة للظَّاهِر، نازلة منزلَة الْمُقَارن للْعُمُوم. وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ .
فَإِن قَالُوا: لَو قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله ظلمت وتعديت أفتحمل ذَلِك على غير ظَاهره. قيل: لَا يضطرنا إِلَى حمله على خلاف ظَاهره شَيْء إِذْ يسوغ من الشَّافِعِي وَمِمَّنْ هُوَ أجل مِنْهُ، أَن يظلم.
فَأَما أَن يعْتَقد كَون الشَّيْء حَلَالا حَرَامًا، فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك مِنْهُ أصلا.
فَإِن قَالُوا: قد أبدع الشَّافِعِي على الصَّحَابَة وخرق الْإِجْمَاع فِي ذكر الْقَوْلَيْنِ. فَإِن الصَّحَابَة لما اخْتلفُوا، لم يذكر أحد مِنْهُم فِي الصُّورَة الْوَاحِدَة قَوْلَيْنِ.
قُلْنَا: الْجَواب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنهم كَمَا لم يذكرُوا قَوْلَيْنِ لم يمنعوا ذكر الْقَوْلَيْنِ. فَلَيْسَ فِي كفهم عَن ذكر الشَّيْء مَا يدل على مَنعهم إِيَّاه. فَسقط مَا قَالُوهُ.
ثمَّ نقُول: كم ذكرُوا من وُجُوه الِاحْتِمَال فِي الْحَادِثَة الْوَاحِدَة وَلَكِن لم يصفوها بالأقوال كَمَا ذكرُوا وُجُوه الِاحْتِمَال وَالِاجْتِهَاد وَلم يسموه ربطا وتحريرا وفرعا و أصلا، وَلم يذكرُوا من عِبَارَات متناظري الزَّمَان، إِلَّا الْقَلِيل. وَلَا يدل ذَلِك على خُرُوج أهل الزَّمَان عَن إِجْمَاعهم.
فَإِن قَالُوا: فَمَا وَجه تَخْرِيج الشَّافِعِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ وَمَا مَعْنَاهُ ؟
قُلْنَا: قد اخْتلفت فِي ذَلِك أجوبة أصحابه. وَنحن نذْكر مَا ذَكرُوهُ ثمَّ نعول على الْأَصَح مِنْهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى .
فَذهب بَعضهم: إِلَى أَنه قصد بِذكر الْقَوْلَيْنِ، حِكَايَة مذهبين من مَذَاهِب الْعلمَاء.
وَهَذَا غير سديد من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: إِنَّه قد يَجْعَل الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ فِي صُورَة لَا يُؤثر فِيهَا عَن الْعلمَاء قَول على التَّنْصِيص.
وَالْآخر أَنه يضيف الْقَوْلَيْنِ إِلَى اجْتِهَاده وَلَا يجْرِي فِي ذَلِك مجْرى حِكَايَة الْمذَاهب. فَإِنَّهُ إِذا حكى الْمَذْهَب فصيغة كَلَامه فِي الْحِكَايَة تتَمَيَّز عِنْد كل مُصَنف عَن صِيغَة ذكره الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي: إِنَّمَا ذكر الْقَوْلَيْنِ، ليبين أَن مَا عداهما فَاسد عِنْده، و يحصر الْحق، فِي قَوْلَيْنِ أَو ثَلَاثَة، على مَا نذكرهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذكره فِيهِ نظر أَيْضا. فَإِن الشَّافِعِي لَا يقطع فِي المجتهدات بتخطئة غَيره. وَمن تدبر أُصُوله، عرف ذَلِك مِنْهَا .
وَالصَّحِيح فِي ذَلِك أَن نقُول: مَا يُؤثر فِيهِ عَن الشَّافِعِي قَولَانِ، فَهُوَ على أَقسَام.
فَمِنْهُ القَوْل الْجَدِيد و القَوْل الْقَدِيم. فقد وضح من مُقْتَضى كَلَامه أَنه بِذكرِهِ الْجَدِيد رَجَعَ عَن الْقَدِيم. فَلَا يجْتَمع لَهُ فِي أَمْثَال ذَلِك قَولَانِ.
وَمِنْه أَن ينص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد، وَلكنه يمِيل إِلَى أَحدهمَا، ويختاره فَهُوَ مذْهبه وَالْآخر لَيْسَ بقول لَهُ. وَإِنَّمَا ذكره أَولا تَوْطِئَة للْخلاف وتمهيدا لَهُ.
وَلَو نَص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد ثمَّ ذكر أَحدهمَا بعد ذَلِك، وأضرب عَن ذَلِك الثَّانِي فَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُزنِيّ رَحمَه الله أَن ذَلِك رُجُوع مِنْهُ عَن القَوْل الثَّانِي وَلما قَالَه وَجه. وَإِن كَانَ أنكرهُ مُعظم الْأصحاب.
فَأَما إِذا نَص على قَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَلم يرجح أَحدهمَا بعد ذَلِك على الثَّانِي وَلم يقْتَصر على أَحدهمَا بعد نَصه عَلَيْهِمَا وَنقل مثل ذَلِك - حَتَّى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ - إِن هَذَا الْفَنّ لَا يكَاد يبلغ عشرا.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالْوَجْه عِنْدِي أَنه قَالَ فِي مثل هَذَا الْموضع بالتخيير. وَكَانَ يَقُول بتصويب الْمُجْتَهدين.
وَهَذَا الَّذِي قَالَه غير سديد فَإِن الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الْمُصِيب وَاحِد على أَن فِيمَا ذكره القَاضِي دخلا عَظِيما ونبين ذَلِك، بِأَن نمهد أصلا فِي التَّخْيِير.
فَنَقُول: من قَالَ بالتخيير على مَا قدمنَا القَوْل فِيهِ، إِنَّمَا يُمكنهُ القَوْل بالتخيير فِي تَقْدِير واجبين.
مثل أَن يُؤَدِّي أحد الاجتهادين إِلَى إِيجَاب شَيْء وَالثَّانِي إِلَى إِيجَاب غَيره. وَلَا يُؤَدِّي تَقْدِير جَمعهمَا على سَبِيل التَّخْيِير إِلَى تنَاقض وَينزل منزلَة أَرْكَان كَفَّارَة الْيَمين. فَإِذا تصورت الْمَسْأَلَة بِهَذِهِ الصُّورَة، سَاغَ الْمصير إِلَى أَن التَّخْيِير فيهمَا .
وَأما إِذا كَانَ أحد الاجتهادين يُؤَدِّي إِلَى التَّحْلِيل وَيُؤَدِّي الثَّانِي إِلَى التَّحْرِيم فَلَا يتَصَوَّر التَّخْيِير فِي الْقَوْلَيْنِ إِذْ من المستحيل التَّخْيِير بَين الْحَظْر والتحليل وَهَذَا بَين لكل متأمل وَقد ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي خلال كَلَامه. وَكَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق التَّخْيِير بَين محرمين.
فَإذْا وضح ذَلِك. فقد اخْتلف قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله كثيرا فِي تَحْلِيل وَتَحْرِيم. فَكيف يُمكن حمل اخْتِلَاف قَوْله على القَوْل بالتخيير؟ فالسديد إِذا أَن نقُول فِي الْقسم الْأَخير الَّذِي ختمنا الْكَلَام بِهِ - وَهُوَ أَن ينص على قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيد، وَلَا يخْتَار أَحدهمَا - إِنَّه لَيْسَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَول وَلَا مَذْهَب وَإِنَّمَا ذكر الْقَوْلَيْنِ ليتردد فيهمَا. وَعدم اخْتِيَاره لأَحَدهمَا لَا يكون ذَلِك خطأ مِنْهُ. بل علو رُتْبَة الرجل، وتوسعه فِي الْعلم، وَعلمه بطرق الْأَشْبَه يمْنَع أَن يتَّفق لَهُ ذَلِك. وَيبعد أَن يَبْتَدِئ الرجل مسَائِل الشَّرْع ويختمها وَلَا تعن لَهُ مَسْأَلَة إِلَّا ويغلب على ظَنّه فِي أول نظرة جَوَاب وَاحِد.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلَا معنى لقولكم: للشَّافِعِيّ قَولَانِ إِذْ لَيْسَ لَهُ على مَا زعمتم فِي مثل هَذِه الْمسَائِل قَول وَاحِد وَلَا قَولَانِ!
قُلْنَا: هَكَذَا نقُول وَلَا نتحاشى مِنْهُ. وَإِنَّمَا وَجه الْإِضَافَة إِلَى الشَّافِعِي ذكره لَهما و استقصاؤه وُجُوه الْأَشْبَاه فيهمَا. فَهَذَا أَسد الطّرق وأوضحها.
وَقد شعب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ كَلَامه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ لبابه وَتعلم ذَلِك إِذا طالعت كِتَابه.

.كتاب التَّقْلِيد:

.القَوْل فِي حَقِيقَة التَّقْلِيد:

اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي حَقِيقَة التَّقْلِيد. فَذهب بَعضهم إِلَى أَن التَّقْلِيد هُوَ قبُول قَول الْقَائِل وَلَا يدْرِي من أَيْن يَقُول مَا يَقُول.
وَهَذَا القَوْل غير مرضِي عندنَا. فَإِن التَّقْلِيد منبئ عَن الِاتِّبَاع المتعري عَن أصل الْحجَّة. فَإِذا لم يكن فِي تَحْدِيد التَّقْلِيد مَا يُنبئ عَن ذَلِك، لم يكن الْحَد مرضيا أصلا.
وَهَذَا الْقَائِل يَقُول إِذا جَوَّزنَا للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِاجْتِهَاد فقبول قَوْله تَقْلِيد لَهُ من حَيْثُ أَن الْقَائِل لَا يدْرِي قَالَه الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَن التَّقْلِيد قبُول قَول الْقَائِل بِلَا حجَّة.
و من سلك هَذِه الطَّرِيقَة منع أَن يكون قبُول قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقليدا، فَإِنَّهُ حجَّة فِي نَفسه وَهَذَا خلاف فِي عبارَة يهون موقعها عِنْد ذَوي التَّحْقِيق.
غير أَن الأولى فِي حد التَّقْلِيد - عندنَا - أَن نقُول: التَّقْلِيد هُوَ اتِّبَاع من لم يقم باتباعه حجَّة، وَلم يسْتَند إِلَى علم.
فيندرج تَحت هَذَا الْحَد الْأفعال والأقوال وَقد خصص مُعظم الْمُحَقِّقين كَلَامهم بالْقَوْل. وَلَا معنى للاختصاص بِهِ. فَإِن الِاتِّبَاع فِي الْأفعال المبنية كالاتباع فِي الْأَقْوَال.
ويندرج تَحت هَذَا الْحَد أصل فِي التَّقْلِيد، ذهل عَنهُ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ. وَذَلِكَ أَن معظمهم مَعَ الِاخْتِلَاف فِي تَحْدِيد التَّقْلِيد مجمعون على القَوْل بِأَن الْعَاميّ مقلد للمفتي فِيمَا يَأْخُذهُ مِنْهُ.
وأدرجوه تَحت الحدين السَّابِقين وَقَالُوا: إِن قُلْنَا: أَن التَّقْلِيد قبُول قَول الْقَائِل بِلَا حجَّة، فقد تحقق ذَلِك فِي الْمُفْتِي، فَإِن قَوْله فِي نَفسه لَيْسَ بِحجَّة. وَإِن حددنا التَّقْلِيد بِأَنَّهُ قبُول الْقَائِل مَعَ الْجَهْل بمأخذه. فَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق فِي قَول الْمُفْتِي أَيْضا.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ. وَالَّذِي نختاره أَن ذَلِك لَيْسَ بتقليد أصلا. فَإِن قَول الْعَالم حجَّة فِي حق المستفتى. إِذْ الرب تَعَالَى وَجل نصب قَول الْعَالم علما فِي حق الْعَاميّ وَأوجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ. كَمَا أوجب على الْعَالم الْعَمَل بِمُوجب اجْتِهَاده وَعلمه واجتهاده علم عَلَيْهِ وَقَوله علم على المستفتي.
وَيخرج لَك من هَذَا الأَصْل أَنه لَا يتَصَوَّر على مَا نرتضيه تَقْلِيد مُبَاح فِي الشَّرِيعَة. لَا فِي الْأُصُول وَلَا فِي الْفُرُوع إِذا التَّقْلِيد هُوَ اتِّبَاع الَّذِي لم تقم بِهِ حجَّة. وَلَو سَاغَ تَسْمِيَة الْعَاميّ مُقَلدًا. مَعَ أَن قَول الْعَالم فِي حَقه وَاجِب الِاتِّبَاع، جَازَ أَن يُسمى المتمسك بالنصوص وَالْإِجْمَاع وأدلة الْعُقُول مُقَلدًا! وَهَذَا وَاضح فِي مَقْصُود.
ثمَّ إِنَّا نذْكر بعد ذَلِك منع التَّقْلِيد فِي الْأُصُول، ثمَّ فِي الْفُرُوع.

.القَوْل فِي منع التَّقْلِيد فِي الْأُصُول:

اعْلَم، أَن هَذَا الْبَاب يرسم الْكَلَام فِيهِ فِي فن الْكَلَام بيد أَنا نذْكر مَا يَقع بِهِ الِاسْتِقْلَال، فَلَا يسوغ لأحد أَن يعول فِي معرفَة الله تَعَالَى، و فِي معرفَة مَا يجب لَهُ من الْأَوْصَاف، و يجوز عَلَيْهِ ويتقدس عَنهُ على التَّقْلِيد.
وَكَذَلِكَ القَوْل فِي جملَة قَوَاعِد العقائد. بل يجب على كل معترف أَن يسْتَدلّ فِي هَذِه الْأُصُول. و لن تقع لَهُ الْعُلُوم فِيهَا إِلَّا عقب النّظر الصَّحِيح.
وَذهب الحشوية إِلَى القَوْل بالتقليد فِي الْأُصُول لما أقعدهم عيهم عَن مبالغ ذَوي النّظر.
وَلم يُغْنِهِم تقاعسهم حَتَّى أزروا على ذَوي الْحجَّاج السالكين أَسد المناهج. وطرق الرَّد عَلَيْهِم كَثِيرَة. وَالْوَاحد مِنْهَا يَجْزِي من تَأمل.
فَنَقُول لَهُم: معاشر المقلدين! هَل علمْتُم أَن التَّقْلِيد يُفْضِي إِلَى الْعلم، أم لم تعلمُوا ذَلِك؟ فَإِن قُلْتُمْ: أَنا لم نعلمهُ - هُوَ كلمة الْحق - فَفِي ضلال تعمهون. و بِهِ على أَنفسكُم تعترفون وَإِن زعمتم: أَنا نعلم افضاءه إِلَى الْحق - فَلَا تخلون أما أَن تعلمُوا ذَلِك ضَرُورَة و بديهة أَو لاتعلمون ضَرُورَة و لَا بديهة.
فَإِن ادعيتم الْعلم الضَّرُورِيّ، سَقَطت مكالمتكم ووضحت مباهتتكم وَلم تسلموا من معارضتكم بِدَعْوَى الضَّرُورَة فِي صد مَقَالَتَكُمْ.
وَإِن هم زَعَمُوا أَنا نعلم إفضاء التَّقْلِيد إِلَى طرق التسديد بِالدّلَالَةِ سئلوا عَن إِقَامَتهَا وهيهات .
فَإِن خَاضُوا فِي ابتغائها وانتحائها، فقد خَاضُوا فِي النّظر من حَيْثُ لم يشعروا.
فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا علمنَا إفضاء التَّقْلِيد إِلَى الْعلم بالتقليد، سئلوا عَن إِقَامَة الدَّلِيل على التَّقْلِيد الَّذِي جَعَلُوهُ أصلا للتقليد فيتسلسل عَلَيْهِم القَوْل، وَلَا يَجدونَ عَنهُ مخرجا.
فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا علمنَا افضاء التَّقْلِيد إِلَى الْعلم بِمَا فِي الْكتاب وَالسّنة من الْأَمر بالاتباع.
قيل لَهُم: وأنى لكم التَّمَسُّك بِكِتَاب الله. وَلَا يثبت كتاب الله تَعَالَى إِلَّا بِحجَّة. فَبِمَ علمْتُم أَن الَّذِي اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كتاب الله تَعَالَى.
فَهَذِهِ ورطة لَا مخلص لَهُم عَنْهَا .
ثمَّ نقُول لَهُم: إِذا قلدتم فِي أصُول الدّين وَاحِدًا مِنْكُم، فَلَا شكّ أَنكُمْ لَا توجبون لمن اتبعتموه الْعِصْمَة وتجوزون عَلَيْهِ الزلل. فَمَا الَّذِي حملكم على اتِّبَاعه و هَذَا حَاله! فَإِن رجعتم إِلَى مُجَرّد القَوْل فقد وسعتم مَذَاهِب الدّين. وَأَقل مَا يلزمكم عَلَيْهِ، كف النكير عَن معتقدي الْبدع إِذا قلدوا أصحابهم . فَإِن وَاحِدًا مِنْكُم لم يعول على حجاج.
فَإِن قَالُوا: مَعنا السوَاد الْأَعْظَم. وَقد وصّى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاتِّبَاع السوَاد الْأَعْظَم.
قُلْنَا: فَلَا جهل يزِيد على الْفَنّ الَّذِي أظهرتموه. فَإِنَّكُم تنازعون فِي إِثْبَات رب الْمُرْسل وتطالبون بِمَا فِيهِ عصمتهم فتستدلون فِيهِ بقول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ثمَّ لَا معول على السوَاد الْأَعْظَم فِي أصل الدّين. فَإِن سَواد الْكَفَرَة أعظم من سوادنا وَلَقَد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صدر الْإِسْلَام فِي شرذمة قَليلَة الْعدَد.
وَلَيْسَ الْمَعْنى بِاتِّبَاع السوَاد الْأَعْظَم الِاتِّبَاع فِي أصُول الدّين. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. ووضحت فِي أصُول الدّين غرتهم وشدحت فِي أصُول العقائد عورتهم .
ثمَّ نقُول لَهُم: خبرونا! هَل فِي السَّمَوَات وَالْأَرضين حجَّة على ثُبُوت الصَّانِع؟.
فَإِن أَنْكَرُوا ذَلِك انتسبوا إِلَى رد الْكتاب، وَهُوَ مفزعهم وَإِن أثبتوا الْحجَّة، سئلوا عَن وَجههَا. فيضطرون إِلَى الْخَوْض فِي الْحجَّاج. وَالْكَلَام عَلَيْهِم طَوِيل، وَهَذَا قَلِيل من كثير.
واعتصم أصحابنَا بِكُل ظَاهر فِي الْكتاب وَالسّنة يتَضَمَّن الْأَمر بِالِاعْتِبَارِ والاحتجاج وَلَهُم جمل من الظَّوَاهِر، يهون الْكَلَام عَلَيْهِم فِيهَا .
فَرَأَيْنَا الإضراب عَن تمسكهم بهَا .